>
Zurück / عودة الى الرئيسية
برلين ــ د. إسكندر الديك
في مذكراتي التي تنتظر فرج النشر كتبتُ بتفصيلٍ نوعاً ما عن تجربتي الشخصية واللصيقة بموضوع اللاسامية وانتقاد إسرائيل في ألمانيا، وذلك بعد أن قضيتُ حوالي عشرين سنة في العمل الإعلامي في مؤسسة "دويتشه فيللة" الألمانية وفي مؤسسات إعلامية أخرى عديدة:
ما بدأته في بون من طرح أسئلة "محرجة" في المؤتمرات الصحافية عن سياسات إسرائيل في الشرق الأوسط، ونهجها التوسعي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وامتناعها عن تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ورفض حكوماتها المتتابعة تنفيذ حلّ الدولتين ــ أي قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل ــ تابعته من برلين بكل الزخم المطلوب مع تزايد التوترات في منطقة الشرق الأوسط.. الفرق الذي حصل هو أنه مع وصول الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر إلى الحكم في انتخابات عام 1999 وخروج الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) منه أحدث تغييراً في الوجوه، وبخاصة على مستوى الناطقين الرسميين باسم الحكومة ووزاراتها. وحل ممثّل عن حزب الخضر ناطقاً رسمياً باسم وزارة الخارجية. والذي خبرتُه وعرفتُه عن هذا الحزب في بون هو وجود مجموعة قوية في داخله تؤيد إسرائيل في السرّاء والضرّاء، أكانت على حق أم على خطأ وترفض رفضاً مطلقا توجيه أية انتقادات علنية أو غير علنية إليها. ولا يزال أحد نواب الحزب من هذه المجموعة يرأس لجنة الصداقة البرلمانية مع إسرائيل منذ وقت طويل.
لاحظت على الفور، ومنذ البداية، وجود نظرة عدائية تجاهي من جانب الناطق الرسمي الجديد باسم وزارة الخارجية الألمانية العضو في حزب الخضر مع كل سؤال كنت أطرحه حول انتهاكات إسرائيل للقرارات الدولية، ولحقوق الإنسان، واستخدامها القوة المفرطة ضد الفلسطينيين. كانت قسمات وجهه تتحرك بطريقة غير طبيعية وهو يستمع إلى أسئلتي ويرد عليها بصورة انفعالية، الأمر الذي لم أعتده من سابقيه في الحزبين المسيحي والاشتراكي. أما نائبته التي كانت تحل محله حين يكون مشغولاً أو خارج البلاد فكان الخوف والهلع يرتسم على وجهها بمجرد أن أرفع يدي لطرح سؤال، خوفاً منها من أن تجيب بكلام لا يٌعجب رئيسها. وقد لمّحت هي بنفسها إلى ذلك حين التقينا صدفة في إحدى المناسبات الاجتماعية وتحدثنا عن الموضوع. المهم في الأمر أن أسئلتي الجريئة و"المحرجة" لم تخرج، وكما كان الأمر في بون، عن إطار يمكن أن يضعها في خانة العداء للسامية. لذلك كنت غالباً ما أحيل سؤالي، حين لا أتلقى جواباً منهما، إلى الناطق الرسمي باسم الحكومة، وهو من الحزب الاشتراكي ويمتاز بخبرة واسعة كما لمست أ,و إلى نائبته حين يكون غائباً. وكان غالباً يرد بحنكة بصورة تحمل انتقاداً ما لإسرائيل أو أسفاً على موقف أو تصريح أو عمل ما ارتكبه جيشها، الأمر الذي كان يزيد في غضب الناطق باسم وزارة الخارجية.
ومع تقديري الكبير لنضال حزب الخضر الطليعي في مجال الدفاع عن البيئة وحمايتها، إلا أنني لم أجد لدى أي حزب آخر في ألمانيا تحجراً في ما يتعلق بتوجيه انتقاد مشروع إلى إسرائيل كما هو الأمر مع الخضر، علماً أن لدى الحزب هذا أيضاً جناحاً يسارياً ماركسياً، بل وماوياً كذلك من خلال انضمام أعضاء إليه من رحم الثورة الطلابية الأوروبية الشهيرة في ستينات القرن الماضي، وعلى رأسهم يوشكا فيشر رئيس الحزب الذي أصبح وزيراً للخارجية في حكومة المستشار غيرهارد شرودر ونائبه فيها أيضاً. مع ذلك كان نادراً جداً أن يوجّه أحدهم انتقادات إلى إسرائيل بمبادرة ذاتية كونه يعرف الثمن السياسي الكبير الذي سيدفعه في حال فّتْحِ مِلف ماضيه. ويمكنني أن أستثني هنا النائب ووزير البيئة عن حزب الخضر يورغن تريتين الذي أجريت معه مرة مقابلة لإذاعة "دويتشه فيلله"العربية انتقد فيها بعبارات واضحة نهج الاستيطان الإسرائيلي المستمر والمتمادي.
أعود في هذا السياق إلى فيشر لأسرد القصة التي حصلت وأنا متواجد في صالة كبيرة في العاصمة الألمانية السابقة بون لمناسبة تقديم سفير إسرائيل الجديد في ألمانيا، الدكتور الجامعي والناشر أفي بريمور، كتاباً جديداً له بحضور الوزير فيشر المدعو من السفير لتقديم تقويم لكتابه. كان تقويم فيشر إيجابياً، ولا حراجة في ذلك، إذ أن السفير كان سياسياً مثقفاً ومن أنصار تحقيق تسوية سياسية للقضية الفلسطينية تنتهي بإقامة دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل، وكان هناك سعي دولي واسع في تلك الفترة لتحقيق ذلك. لكن بريمور ذكر بداية في كلمته، وهو يتحدث عن نفسه، أنه ولد في إسرائيل عام 1935. استغربتُ على الفور هذا القولَ وتساءلتُ، كما حصل لكثيرين غيري في القاعة بالتأكيد، كيف يمكن له أن يدعي ذلك ويلغي حقيقة أنه ولد في فلسطين قبل ثلاثة عشر سنة من النكبة وقيام إسرائيل؟! حين جاء دور فيشر في الكلام سارع في بداية حديثه إلى تصحيح ما قاله السفير في هذا المجال، مذكراً إياه بأن إسرائيل لم تكن موجودة في ذلك الوقت، بل فلسطين، وتابع بعد ذلك تقديمه الايجابي لكتاب بريمور الصادر حديثاً. لم يُعقّب السفير على ملاحظة فيشر في تلك الأمسية ولا أحد غيره، لكن لم تمض أيام قليلة حتى بدأت وسائل إعلام إسرائيلية وألمانية حملةً لكشف ماضي الوزير فيشر بهدف اتهامه بأنه معادٍ لإسرائيل ومناصرٍ شديدٍ للحركات الفلسطينية المسلحة "الإرهابية"، وأنه مؤيد كذلك لياسر عرفات، والدليل على ذلك صورة له نُشرت وهو يشارك في مؤتمر لمنظمة التحرير الفلسطينية عُقد في الجزائر في عام 1969 وهو يُصفّق بيديه. وكان فيشر، ابن الـ 21 عاماً، يشارك في المؤتمر ضمن وفد صغير يمثل "اتحاد الطلبة الألمان الاشتراكي" SDS الذي تركه لاحقاً وانتسب إلى حزب الخضر عام 1982. على الأثر صدرت تعليقات سياسية وإعلامية هنا وهناك ترى في بقاء فيشر وزيراً لخارجية ألمانيا أمراً لا يُحتمل، وأخرى حذّرت من محاولة قتله سياسياً بسبب طيشٍ ارتكبه في شبابه. خلال ذلك لم يخرج من فم فيشر أي كلام يرد فيه على هذه الحملة ضده أو أية تعابير بمكن أن تغيظ إسرائيل لا من قريبٍ ولا من بعيد، بل وسعى على الأثر على ما يبدو الى استرضاء تل أبيب ودعم وتحقيق طلباتها، وإذ بالجوائز الإسرائيلية وحفلات التكريم تنهمر عليه لتطويعه، الأمر الذي تحقّق. وفي عام 2012 كتب فيشر مقالاً اعتبر فيه أن حركة حماس الإسلامية، التي عجزت منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها محمود عباس عن السيطرة عليها، هي التي تعطي إسرائيل حجّة رفض حلّ القضية الفلسطينية وتنفيذ حلّ الدولتين، ناسياً أو متناسياً دور إسرائيل في تقوية الحركة في وجه منظمة التحرير من جهّة، وبخاصةٍ مع تسليم رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق آرييل شارون قطاع غزة إليها لإضعاف منظمة التحرير وتغذية الصراع بينهما.
ولا زلتُ أذكر التجربة الأولى التي مررت فيها مع ممثلة لحزب الخضر في البرلمان الاتحادي حين كنت لا أزال في بون. ففي مؤتمر صحافي دعت إليه للحديث عن حقوق الإنسان دافعت المذكورة عن هذه الحقوق المنتهكة في بلدان عديدة بينها دول عربية من دون أن تشير بكلمة واحدة إلى انتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين. حين جاء دور الأسئلة سألتها عن سبب عدم حديثها عن انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان الفلسطيني، إن في إسرائيل نفسها أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة فانتفضت مثل نسرٍ مجروح وقالت ما مفاده إن إسرائيل تدافع عن نفسها وعن مواطنيها أمام الإرهاب الفلسطيني. قلت لها إن ثمّة إدانات عديدة لإسرائيل من جانب الأمم المتحدة ومن دول عديدة في هذا المجال، لكنها رفضت الأخذ بذلك وأصرّت على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
أعود هنا من جديد إلى الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الألمانية المنتمي إلى حزب الخضر لأشير إلى أنني كنت أتلقى كل سنة مثل غيري من الصحافيين في برلين دعوة رسمية للمشاركة في حفل "كرمس" صيفي على سطح الوزارة، يحضره أحيانا وزير الخارجية لفترة من الوقت. مرّ فصل الصيف ولم تصلني دعوة كالعادة. استغربت الأمر، لكنني لم أسأل ولم استفسر. في صيف العام الثاني حصل الأمر ذاته، سألت بعض الزملاء إن كان الحفل قد ألغي فنفوا ذلك، وقالوا لي إنه جرى مؤخراً، عندها عرفتُ أن الناطق الرسمي شطب اسمي من سجلّ المدعويّن، وهذا أمر يحق له بطبيعة الحال، لكنه أتى في سياق انتقام شخصي لا لسبب مشروع. في السنة الثالثة حصل تعديل في الوزارة أدى إلى ترفيع الناطق الرسمي ليحتل منصب رئيس قسم العلاقات الدولية في الوزارة، وحلّ محله شخص آخر عن الحزب الديمقراطي المسيحي. وفجأة تغيّرت الصورة بكاملها في المؤتمرات الصحفية، إذ كان الناطق الجديد مستعداً للرد على الأسئلة "المحرجة" التي كنت أطرحها عن إسرائيل، ليس فقط دون استياءٍ ونقمةٍ، بل وبكل طيبة خاطر، فكان ينتقد حين يكون ذلك ضرورياً، غير أنه كان يجيب، على الأقل، عن أسئلتي دون عُقدة في الذهن. وكنا نتحادث سوياً أحياناً قبل المؤتمر الصحافي أو بعده لتوضيح بعض المواقف أو التدقيق فيها. حين حلّ الصيف سألني بعد محادثة بيننا إن كنت سأحضر حفل الوزارة السنوي القريب. ابتسمتُ وقلت له إن اسمي مشطوب منذ عامين على ما يبدو، ولم أعد أتلقى أية دعوة. استغرب المسؤول الجديد الأمر فرويت القصة له، فهز رأسه وقال لي إنه سيراجع اللائحة وسيضيف اسمي من جديد إليها إن كان مشطوباً و "ستصلك دعوة مني". وهذا ما حصل فعلاً، وتلقيت دعوة هذه المرة من جديد. المثير في الأمر أنني حين وصلت إلى مكان الاحتفال التقت عيناي بعيني الناطق السابق الذي كان قد شطب اسمي فرأيت تعابير وجهه تتجمّد حين رآني، وعلامة سؤال على وجهه عن كيفية حصول ذلك. مررتُ من أمامه ملقياً نظرةً بائسة عليه وهو يلاحقني بعينين غير مصدّقتين. ولا اُخفي أنني شعرت بنُشوة في تلك اللحظة بعد أن سقط هذا الرجل من عينيّ منذ فترة طويلة. لاحقاً سمعتُ من أحاديثي مع عدد غير قليل من السفراء العرب استياءهم الشديد من تشنّج غير طبيعي في دفاع هذ1 الرجل المذكور عن إسرائيل خلال لقاءاتهم الرسمية معه في مقر الوزارة. وبعد عامين تقريباً علمت أنه عُيّن سفيراً في أحد البلدان، وتَبِعتهُ لاحقاً نائبته السابقة كسفيرة في دولة اخرى.
وباختصارٍ فان مسألة الموقف من سياسات إسرائيل في المناطق الفلسطينية المحتلة، وفي الشرق الأوسط ككل واكبت جزءاً كبيراً من عملي كمراسل يومي للبرنامج العربي في إذاعة "دويتشه فيلله" في برلين بعد بون. وبصفتي هذه لم أكلّ عن طرح الأسئلة في المؤتمرات شبه اليومية للحكومة الألمانية ووزاراتها، وفي تغطية زيارات رؤساء دول وحكومات ووزراء بلدان عربية كانوا يلتقون المستشارة مركل ووزراء الخارجية والدفاع والتعاون الإنمائي الألماني ويعقدون مؤتمرات صحافية، وكلها مناسبات هامة لطرح أسئلة على الطرفين. وغالباً ما كانت أزمة الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل حاضرةٌ ناضرة. وحين كانت تسنح لي الفرصة، وغالباً ما سنحت، لم أكن أوفّر المستشارة أيضاً من أسئلتي "المحرجة" التي كانت ترد عليها دون أي توتّر في واقع الحال، وبدبلوماسية ومرونة تُحسد عليها. صحيح أن أجوبتها كانت غالباً ما تبقى في العموميات، إلا أنها غالباً ما كانت تركّز أيضاً على ضرورة تنفيذ حلّ الدولتين، وتحذّر من "خطر قيام عنصرية في الدولة الواحدة التي قد تسعى إليها إسرائيل". وغالباً ما كانت تنتقد أيضاً الاستيطان الإسرائيلي المستمر في الأراضي الفلسطينية وتدعو إلى تنفيذ قرارات الأمم المتحدة في هذا المجال. ولا بدّ أن أشدد هنا على أنني واصلت في برلين مهمة السهر كما كنت أفعل في بون على أن لا تخرج أسئلتي المحرجة للعديد من المسؤولين الألمان عن توازنٍ يُبعد عني الوقوع في أتون تهمة العداء للسامية.
مع ذلك، ورغم كل الاحتياطات، حدث أن حاول بعضُ المسؤولين والزملاء الصحافيين الألمان في المؤسسة التي أعمل فيها ممارسة ضغوط عليّ للتوقف عن طرح الأسئلة المحرجة عن إسرائيل في مؤتمرات الحكومة الصحافية، ولا استبعد أبداً أن ذلك جاء بإيحاءات من دوائر سياسية معيّنة إسرائيلية وألمانية من خلف الستار. ففي عام 2005 فاجأني رئيس مكتب ستوديو العاصمة الذي انتقل معنا من بون إلى برلين في اجتماع تحرير صباحي بشنّ هجوم مباشر عليّ أمام الزملاء الآخرين بسبب تركيزي المستمر على طرح أسئلة على الناطقين الرسميين للحكومة الألمانية حول سياسات إسرائيل ونهجها، مطالباً إياي بضرورة التوقف عن هذا الإحراج الدائم. لم أكن في حقيقة الأمر أتوقع مثل هذا الموقف منه شخصياً، إذ أنه كمسؤول عن استوديو بون ومن ثم استوديو برلين واكب موقفي من هذه النقطة أكثر من عقد من الزمن دون أن يُعلق سلباً أو إيجاباً على الأمر، ودون أن تتعرض علاقتي به إلى أية شائبة. ولا أدري أيضاً إن كان قد طلب منه أحد مسؤولي المؤسسة "إيقافي عند حدّي"، لكن بما أن كلامه كان انفعالياً وفيه نوع من توجيه الأوامر، واجهته على الفور بالقول إنني متفاهم في هذا الموضوع مع رئيس القسم العربي في كولونيا، وإن كان لا يُعجبه ذلك فليس أمامه إلا أن يبحث الأمر مع رئيس قسمي مباشرة لا معي. وأضفت بأن موضوع إسرائيل والشرق الأوسط حيوي جداً لمستمعينا العرب، بغض النظر عن أن مهمة الصحافي الناجح تتمثّل في طرح الأسئلة الجادة التي تضع الأصبع على الجرح، لا المسايرة بأسئلة لا طعم لها ولا رائحة، وإلا فإننا لا نقوم بعمل صحافي جديّ، ونكون نعمل في المكان الخاطئ. فوجئ رئيس المكتب بجوابي المفحم وبنبرة صوتي المرتفعة، ولم يعلّق على ما قلته أمام الزملاء الآخرين الحاضرين، وانما انتقل بكل بساطة إلى موضوع آخر وسط صمت زملاء البرنامجين الألماني والإنكليزي وبرامج أخرى. ومن بين هؤلاء زميلة ألمانية تعرفت عليها في بون وتعمل للبرنامج الألماني، ولها علاقة عاطفية خاصة مع كل من إسرائيل والفلسطينيين، وتكتب عنهما كلما سافرت إلى إسرائيل والضفة الغربية، إن في زيارات خاصة أو في زيارات عمل. ويبدو أن صراعها الداخلي حول أي موقف تقفه من الطرفين دفعها إلى عدم التدخّل في تلك الجلسة لإبداء رأيها. وأشير في هذا السياق إلى أنني لمست هذا النزاع الداخلي الذي أصاب الزميلة، واسمها بيتينا ماركس، وعايشت تبدّله مع الوقت من مدافعة قويّة عن إسرائيل كتعويض ذاتي عن "الهولوكوست" النازي ضد اليهود، إلى مندّد بها بعد فترة غير قصيرة، وإلى مدافعة قوية عن حقوق الفلسطينيين باعتبارهم ضحية لضحايا النازية.
مرت الأيام وخرجتُ إلى التقاعد في أواسط عام 2011، وعلمت في عام 2015 أن ماركس تركت عملها في "دويتشه فيلله" بعد تعيينها رئيسة لمكتب "مؤسسة هاينريش بُل" التابعة لحزب الخضر الألماني في مدينة رام الله، مقر منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة. وكنت استمع إلى الآراء والمقالات التي كانت تكتبها أحياناً، والمقابلات الإذاعية التي تجري معها كلّما تطوّرت الأزمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين ويذهب ضحيتها كثر من المدنيين من الجهتين، ولكن من الفلسطينيين بصورة خاصة. وصدف أن التقينا مرات عدة في مناسبات عامة في برلين، وفهمت منها أنها مرتاحة جداً إلى عملها الجديد، إلا أنها يائسة جداً من السياسية الإسرائيلية.
في عام 2010 دعوتها كرئيس لرابطة الإعلاميين العرب في ألمانيا لتقديم محاضرة عن الأوضاع الإنسانية في المناطق الفلسطينية المحتلة. وبالفعل قدّمت عرضاً أظهر مدى ما تعنيه نفسياً مما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي في حق الفلسطينيين العزّل وتحاول أن تعكسه في مقالاتها. وفي كل مرة كنت ألتقي بها لاحقاً ألمس من كلامها وجود إحباط متنام لديها بسبب عنجهية السياسة الإسرائيلية الساخرة من الحقوق المشروعة للفلسطينيين في أرضهم، ومن القرارات الدولية التي تتخذها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وبخاصة من مشروع حلّ الدولتين. وفي عام 2018، وبعد أن أذاع البرنامج الألماني في "دويتشه فيلله" مقالاً لاذعاً لها في حق إسرائيل بعنوان "الفلسطينيون أصبحوا في سابع أرض"، انطلقت حملةٌ منسّقةٌ ضدها في إسرائيل وفي ألمانيا من جانب المدافعين بصورة عمياء عن السياسات الإسرائيلية في المنطقة، وصولاً إلى مطالبة قيادة حزب الخضر بتنحيتها عن وظيفتها كرئيسة لمكتب "مؤسسة هاينريش بُل" بحجّة أنها "شديدةُ الانحياز ضد دولة اليهود"، وأنها "تطالب بإزالة إسرائيل" عن الخريطة، و "تُشرّعُ الإرهاب الفلسطيني" وغير ذلك من التهم الجوفاء. لكن موجة التضامن معها والدفاع عنها، بخاصة من جانب من يعرفها شخصياً، كانت كبيرة في ألمانيا إلى درجة أن الجناح القوي المؤيد لإسرائيل داخل حزب الخضر، والذي سبق وأشرت إليه، فشل في ممارسة الضغوط على قيادة الحزب لإقالتها من وظيفتها.
والطريف في الأمر أن العديد من المسؤولين الإسرائيليين كانوا، ولا زالوا حتى اليوم، يقولون إن بإمكان الأوروبيين، والألمان كذلك، توجيه انتقادات إلى إسرائيل. جيّد!، لكن بمجرد أن يحصل ذلك "تقوم القيامة"، وتتوالى تهم العداء لليهود وللسامية من جهات يهودية عدة لكل من ينتقدها. وأبرز واقعة على ذلك التهجم الذي تعرض له رئيس البرلمان الأوروبي مارتين شولتس، وهو سياسي ألماني، خلال إلقائه عام 2014 كلمة أمام نواب الكنيست الإسرائيلي أثار فيه موضوعاً لا يختلف حوله اثنان، وهو أن الإسرائيليين يحصلون على كميات مياه للاستهلاك اليومي في منازلهم أكثر بكثير مما يحصل عليه الفلسطينيون، مضيفاً أن هذا التمييز غير مقبول إنسانياً. عند ذلك دبّ الضجيج والصراخ داخل القاعة وصرخ نواب في وجه رئيس البرلمان الأوروبي بأنه "يكذّب" وغادروا القاعة. وحين أنهى شولتس كلمته امتنع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو مع نواب كثر عن التصفيق له، علماً أن مصلحة المياه الإسرائيلية الرسمية نفسها كشفت في عام 2006 بأن الإسرائيليين يحصلون في منازلهم على كميات أكبر من المياه من الفلسطينيين. والزيادة هذه ارتفعت في الأعوام اللاحقة ولم تنقص بكل تأكيد، وإلا لكانت مصلحة المياه الإسرائيلية واصلت اصدار بيانات سنوية جديدة حول الموضوع. فمن الذي يكذب إذن؟.
قبل عام ونيّف من انتقالي إلى التقاعد في شهر أيار/ مايو من العام 2011 اتصل بي مدير القسم العربي من بون ليبلغني أن شكوى بحقي وصلته بأنني اُحرج كثيراً الناطقين بلسان الحكومة الألمانية ووزارة الخارجية بأسئلتي في المؤتمرات الصحافية، رافضاً أن يكشف لي اسم المشتكي، وطلب مني أخذ الشكوى بعين الاعتبار. شككت بأن يكون المعني بها هو أحد الزملاء في البرنامج الألماني، إذ سبق ولاحظت مرة أو مرتين نظرات ساخطة منه موجهة في اتجاهي عقب الأسئلة التي كنت أطرحها حول الموضوع . بعد تفكير فضّلت أن أذهب إلى مكتب رئيس قسمه لأقول له أن ليس هكذا يتعامل المرء مع زملائه، وأنه كان أجدر بالزميل المعني مكالمتي وطرح الموضوع عليّ بصراحة. حين قلت هذا الكلام رأيت وجه رئيس القسم يحمرّ فجأة ونظراته تتنقّل في كل الاتجاهات. بعد لحظات صمت كشف لي إن الزميل الذي أعنيه لا علاقة له بالأمر، بل هو الذي اتصل بمدير قسمي وبحث الأمر معه. سقط الرجل المعتدّ بنفسه وبقدراته من عينيّ دفعة واحدة. لم أبقَ طويلاً معه، وقلت له إنه كان من الأفضل مفاتحتي بالأمر طالماً اننا نتواجد سوياً على بعد أمتار قليلة من بعضنا البعض، ولكنت أفهمته الأسباب التي تدعوني إلى طرح الأسئلة، إذ لو لم أفعل ذلك منذ بدء عملي في بون عام 1994 لصمت ممثلو الحكومة والمعنيون بالأمر عن قول أي شيء من تلقاء أنفسهم عن أزمة الشرق الأوسط وعدم حلّ النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. بقي صامتاً ولم ينبث ببنت شفّة. نهضتُ عن مقعدي وغادرت الغرفة.
حين حلّ موعد تقاعدي في أواسط شهر أيار/مايو 2011 دعوتُ الجميع إلى حفل وداع، وما كان ممكناً إلا أن أوجه دعوة إلى رئيس القسم أيضاً فقبلها، لكنّه كلّف نائبه ليمثّله بحجة أنه مرتبط بموعد آخر، الأمر الذي أراحه ولا شك، وأراحني في الوقت ذاته.
عزل رئيس الاستخبارات الألمانية بعد تدخّله في شؤون السعودية
من "المعارك" التي خُضّتها أيضاً في قاعة المؤتمرات الصحافية في برلين كان فتح ملف غيرهارد شندلر، رئيس جهاز الاستخبارات الألمانية "بي إن دي"، الذي أصدر تقريراً عن العائلة المالكة في السعودية في الثاني من ديسمبر 2015 ووزّعه على وسائل الإعلام الألمانية والعالمية التي نشرته محدثة ضجة سياسية كبيرة بين الرياض وبرلين. وتبيّن على الأثر أنه أصدره دون إذن من مسؤوليه السياسيين، وفي مقدمهم المستشارة الألمانية أنغيلا مركل ووزير الخارجية في ذلك الحين فرانك فالتر شتاينماير، الرئيس الاتحادي الحالي لألمانيا. المثير في الأمر أن بيان رئيس جهاز الاستخبارات الألمانية لم يكن يتضمن معلومات استخباراتية، وإنما تحليلاً سياسياً للوضع الداخلي في المملكة السعودية، وتوقعات بإمكان قيام انتفاضة داخلية ضد العائلة المالكة، وبصورة خاصة ضد الملك سلمان وولي العهد ابنه محمد بن سلمان الذي حذّر التقرير من مغبات سياساته على بلده إلى حدّ امكان قيام انتفاضة ضده.
خلال المؤتمر الصحافي كان موضوع التقرير طاغياً على غيره. رفعت يدي ووجهت سؤالاً إلى الناطق الرسمي باسم الحكومة والناطق باسم وزارة الخارجية طالباً توضيحاً من حيث المبدأ عمّا إذا كان يحق لرئيس الاستخبارات تقديم تحليل سياسي عن وضع ما في بلد ما أم أن ذلك من مهمة الحكومة الألمانية ككل، وبخاصة وزارة الخارجية؟ كانت الإجابة واضحة بأن رئيس جهاز الاستخبارات تجاوز صلاحياته بصورة مطلقة، وأن وزير الخارجية شتاينماير غاضب جداً من هذا التطاول على صلاحياته كوزير مختص. وكان السؤال التالي مني إن كان مثل هذا التصرف المنافي للأعراف من رئيس جهاز أمني حساس تابع للحكومة تجاه دولة لها علاقات دبلوماسية وسياسية مع ألمانيا يؤهله للبقاء في منصبه؟! جاءني جواب متحفظ، وهذا أمر مفهوم لأن القرارات تتخذ بالفعل في مكان آخر. ولم يأت صباح اليوم الثاني إلا ومعه خبر عن صدور قرار بعزل رئيس جهاز الاستخبارات شندلر من منصبه بسبب تجاوزه الصلاحيات الممنوحة له ، وإصداره بياناً دون الرجوع إلى وزير الخارجية. الطريف في الأمر أن عدداً من الصحافيين الألمان الحاضرين لم يكن يعرفني واعتقدوا أنني صحافي سعودي يطرح أسئلة ويجادل الناطقين الرسميين للحكومة دفاعاً عن السعودية.
وفي واقع الحال أنني طرحت سؤالاً تساءلت فيه كيف يمكن لمسؤول ألماني في منصب غير سياسي أن يتنبأ علناً في تقرير له بأن سياسة ولي العهد محمد بن سلمان التي يتبعها في بلده ستؤدي إلى قيام انتفاضة ضده من جانب امراء آخرين في العائلة المالكة ومن لدن الشارع أيضاً، ما يُفهم بأنه تحريض مباشر من دولة أجنبية للسعوديين على الانقلاب على الحكم القائم. وأضفت أنه في هذه الحالة كيف يمكن أن يستمر هذا الرجل على رأس جهاز الاستخبارات الألمانية أن لم يكن مغطى سياسياً؟ وكما توقعت جاء الجواب الحاسم بعزله من منصبه في اليوم التالي بعد اجتماع عقدته المستشارة مركل مع وزير الخارجية شتاينماير.
في ذلك اليوم أيضاً رنّ هاتفي النقال وأنا في منزلي، وإذ بالمسؤول الإعلامي في السفارة السعودية في برلين الذي كنت أعرفه معي على الخط يبلغني أن سعادة السفير الجديد عرف بأمر المؤتمر الصحافي وما جرى فيه واطلع على الأسئلة التي طرحتها، وأنه مبتهج جداً بما طرحته على المسؤولين الألمان. حتى تلك اللحظة كان الكلام جميلاً ومقبولاً، لكن ما سمعته بعد ذلك أزعجني جداً، إذ قال لي إن السفير يود الاستفادة من خبرتي وقدراتي وتكليفي بالذهاب إلى عدد من اللقاءات والندوات والاجتماعات الألمانية التي يجري فيها طرح مواضيع عدة عن السعودية بهدف مجابهتها والردّ عليها. قاطعت مكلّمي على الفور وقلت له إنني أقرر لوحدي إلى أين أذهب ومع من أتكلم حول هذه الأمور أو غيرها، ولست بحاجة إلى مساعدة في هذا المجال. بعد بضعة أيام جاءني اتصال جديد من المسؤول الإعلامي وأبلغني عن اجتماع سيحصل، وأن السفير يود مني أن أذهب إليه، اعتذرت منه وقلت له إنني غير قادر على ذلك، وتكرر الأمر للمرة الثالثة بعد أيام أخرى، عندها قلت له بوضوح أنني لست على استعداد لفعل ذلك بطلب من أحد مهما كان، إلا إذا اقتنعت بالأمر، وهذا شيء أقرره لوحدي.
صحيح أنني بموقفي وبأسئلتي التي طرحتها في المؤتمر الصحافي السالف الذكر ظهرتُ، ولا شك، في موقف المدافع عن السعودية، وأيدت تدخلها العسكري في اليمن مع دول عربية وغير عربية لمنع إيران من السيطرة على البلد بالتنسيق مع حلفائهم الحوثيين الذين انقلبوا على الرئيس المنتخب عبد ربه منصور هادي وحكومته، وسعوا لجعل طهران تقف مباشرة على الحدود مع السعودية، الأمر الذي يهدد الخليج العربي بكامله، وبالتالي العالم العربي أيضاً عقب تنامي التواجد العسكري الإيراني في كل من العراق وسورية ولبنان. لكن صحيح أيضاً أنني أخالف السعودية في مجالات عدة، خصوصاً في ما يتعلق بتعزيز الحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان والمرأة فيها، وأرحّب ببعض الإصلاحات التي جرت في هذا المجال، لكنها لا تزال بعيدة جداً عن الحدّ الأدنى المطلوب.
أعود إلى السفير السعودي الجديد لأقول إنني قبل وصوله إلى برلين ودعت السفير السابق المنتهية مدته التي مددت أكثر من مرة، وأدى عملاً هاماً جداً لصالح بلده، خاصة لكونه درس وتخصص في ألمانيا الاتحادية، ويفهم العقلية الألمانية بصورة جيدة، إضافة إلى أنه فرض احترامه على الجميع، أيضاً بصفته عميداً للسلك الدبلوماسي. وحين وصل السفير الجديد قمت كعادتي بزيارة تعارف كما كنت أفعل مع جميع السفراء العرب الجدد، وخرجت من عنده بعد عشرين دقيقة بانطباع غير إيجابي وغير مريح. وكنت قد سمعت أنه أحد المقربين جداً من ولي العهد السعودي. وكان واضحاً لي بعد أن سمعت ما قاله في حضوري أنه كانت تنقص السفير الشاب الخبرة الدبلوماسية إن لم أقل السياسية، وليونة التعامل مع الآخرين ألماناً كانوا أم عرباً، الأمر الذي قاده إلى التصادم خلال فترة قصيرة مع ممثلين عن الحكومة وعن الأحزاب الألمانية الممثلة في البرلمان الاتحادي. ولم يمض وقت طويل حتى ساءت العلاقات بين البلدين إلى حدّ استدعائه إلى الرياض من جانب حكومته. ثم وصلت أخبار بأنه تسلّم حقيبة وزارية أو منصباً رفيعاً في بلده وخرج، بالتالي، من السلك الدبلوماسي السعودي. والذي حدث في الفترة التي أعقبت رفضي تلبية رغباته المتكررة أن اسمي في السفارة شُطب من لائحة الدعوات لحضور الاحتفالات التي تقيمها سنوياً، وهو تصرّف ينمّ عن ضعف كبير في تجربته السياسية.