>
Zurück / عودة الى الرئيسية
برلين ـ د. اسكندر الديك
بعد نشري أخيراً الجزء الأول من كتاباتي الأدبية على موقعنا هذا حيث طرقت باب القصة القصيرة، أنتقل في هذا الجزء الثاني إلى باب مذكراتي التي أنهيت كتابتها منذ نحو عام وتقبع في حاسوبي تنتظر بدورها الافراج عنها حين تعود دور الطباعة العربية من جديد إلى اصدار الكتب وتوزيعها حين تنتهي الحروب العربية ـ العربية الدائرة حالياً وتنتفي الأنظمة القمعية التي صادرت الحريات فيها.
يبلغ عدد صفحات مذكراتي 650 صفحة تقريباً، ما يعادل 325 ورقة بين دفتي كتاب، وقد اخترت للحلقة الأولى من هذه المذكرات نشر حدثٍ حصل معي وأنا طفل لم أفهم سببه وخلفياته وبقي يعودني في اللاوعي من وقت إلى آخر حتى شببتُ... إلى أن حصل معي ما لم يكن في الحسبان:
"...كانت الهجرةُ في تلك الفترة من خمسينيات القرن العشرين الماضي إلى الارجنتين رائجة من مختلف بلدان منطقة الشام التي تشمل سورية، لبنان، الاُردن وفلسطين بصورة خاصة. وبعد سفرة له إليها أو أكثر بدأ والدي التفكير جدياً في الأمر وإقناع والدتي بفكرته. ويبدو أن مهنة التجارة الحرة التي ربطها بفكرة السفر إلى الارجنتين كانت تَعِدُ بمستقبل زاهر. وفي كل الأحوال كان هو واحداً ممن مارسوا أيضاً التجارة بشاي "المَتِّه" الأرجنتيني الذي يُشرب في كوب من القرع الطبيعي توضع فيه كمية من السكّر وفحمة مشتعلة (نارة) قبل إضافة المَتِّه إليه وسكب الماء الساخن فوق المكونات هذه قبل بدء الشرب. وشهد هذا النوع الخاص من الشاي أقبالاً متزايداً عليه من اللبنانيين الذين أحبّوا مذاقه وطريقة تحضيره، لكن شرب المَتِّه واستهلاكها تراجع لاحقاً كثيراً في لبنان بعدما شربناه نحن أيضاً على مدى سنوات عديدة، وينحصر انتشاره الواسع اليوم بين الدروز تحديداً كما علمتُ من صديقة لنا من الطائفة المذكورة.
بعد إلحاحٍ وافقت والدتي على فكرة الهجرة إلى هذا البلد الأميركي اللاتيني، وكان أخي نجيب قد أصبح ثالثنا في المنزل بعد أختي رجاء، لذا اشترطت على والدي اتخاذ القرار النهائي بعد دراسة الوضع على الأرض هناك. وكنتُ قد بلغتُ السادسة من العمر حين بدأ والديّ التحضير الفعلي للسفر إلى الارجنتين مع عائلةٍ صديقة من بيروت للبحث عن حياة أفضل، واتفق الوالدان على أخذي معهما كي لا يصبح العبءُ كبيراً على عمتي ماتيلدا، على أن تعاونها حياة، الفتاة التي سبق واستقدمتها والدتي من قريتها رأسمسقا في الكورة لمساعدتها على الاهتمام بشقيقتي وشقيقي، وهي ابنة عائلة كان جدّي إشبيناً لها ولإخوتها.
كنت قد بلغتُ الخامسة من عمري تقريباً حين أدخلني والديَّ مدرسة الراهبات الحديثة التي لا تبعدُ عن حارتنا سوى بضع دقائق مشياً على الأقدام، وهي مدرسةٌ كبيرة نسبياً بنتها الكنيسة المارونية إثر تزايد عدد الموارنة في القسم الغربي من البلدة ذي الغالبية المسيحية من الروم الأرثوذكس فيما سكن المسلمون القسم الشرقي منها. وخلال فترة قصيرة اكتسبتِ المدرسةُ المخصّصة للفتيات فقط صيتاً جيداً، وامتلأت صفوفها بتلميذات من مختلف الطوائف المسيحية، وكذلك من بعض العائلات المسلمة التي رغبت في تعليم بناتها اللغة الفرنسية. وخصّصتْ إدارةُ المدرسة في ذلك الحين صفّاً على الأقل لرعاية صبيان وفتيات في الرابعة والخامسة من العمر بهدف تقديم بعض الفوائد التعليمية لهم وتهيئتهم لدخول المدارس حين يبلغون سنّ السادسة. وهكذا انتقلتُ فجأة من دارة الست مَنِّة وهوائها الطلق إلى بناء مدرسي كبير وقاعات مغلقة تعج بالبنات وبالأساتذة، وبخاصةٍ بعدد من الراهبات اللواتي أسدلن بلباسهن الديني الأسود والأبيض الطويل الذي يلامس الأرض، نوعاً من الرهبة علينا نحن الأطفال. ولحسن الحظ احتفظ أهلي بعدد من البيانات التي كانت توزع علينا فصلياً وتتضمن تقويماً لكل منا من حيث المسلك، والانتظام، والغناء، وتعلم الفرنسية، والدين. ولا تزالُ البيانات هذه في حوزتي تحمل اسم المدرسة وتوقيع الإدارة.
ووسّعتْ هذه التجربةُ الجديدة مدارك حياتي الهجينة في نقطتين أساسيتين: الأولى، في خروجي إلى رحابٍ أوسع من الحيّ الذي كنت أعيش فيه، إذ بت أعرفُ إضافة إلى حارة بيت بولس التي أسكن فيها، وحارة الست مَنِّة، حارةً اُخرى جديدة غلب عليها لاحقاً اسم حارة مدرسة الراهبات، وكلها حاراتٌ لا تبعد عن بعضها البعض في نهاية الأمر أكثر من مئتي متر أو ما يزيد بقليل، كنا نرى فيها في ذلك العمر، وبسبب تداخلها، مسافات بعيدة. والثانية، مشاهدتي للمرة الأولى نساءً بلباسٍ غير اعتيادي، يُطلق عليهن اسم "راهبات"، أو "ما سور" بالفرنسية، ويتحادث المرء معهن باحترامٍ شديد وبلغةٍ لم نكن نفهمها في البداية تتخلّلها كلمات عربية أليفة بين الفيْنة والأخرى. وأذكر أن عددنا في الصف التحضيري كان أكبرَ بكثيرٍ من عددنا عند الست منّة (تبعاً للأوراق التي احتفظ بها بدأ العدد مع عشرين طفلاً ووصل لاحقاً إلى أربعين)، كما أن أسلوب رعايتنا في الصف المغلق مختلفٌ تماماً عنه في "دارة الست منّة" حيث الهواء الطلق، وزقزقة العصافير، وضجيج المارّين في زاروب الحارة. مع ذلك لم يزعجني الجو الجديد المختلف تماماً والمفصول عن العالم الخارجي، وتعوّدت عليه بسرعة، إلا أنني افتقدت كثيراً المشمش المجفف والحلقوم والاستمتاع بلحسهما خلال فترات الاستراحة. وتأقلمتُ بعد بضعة أسابيع مع الجو الجديد وبدأتُ أحفظُ مجموعة من الكلمات الفرنسية، وتعلمَّنا بعدها أغانٍ فرنسية للأطفال أشهرها بالطبع أغنية "فريرو جاكو" المعروفة دولياً. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى لاحظتُ أن إحدى الراهبات كانت على الدوام في غاية اللطف معي دون أن أعرفَ السبب.
مضتْ سنةٌ ونصف السنة تقريباً على هذا المنوال لم أحفظ خلالها الطريق التي تفصلُ بين بيتنا والمدرسة عن غَيْبٍ فقط، بل وتفحَّصتُ جيداً المحال التجارية على أنواعها على طول الطريق إلى المدرسة، وكذلك صالة السينما الواقعة تحت قبو عالٍ لا يزال قائماً حتى اليوم، وبعدها المقهى الكبير الذي عُرف لفترةٍ طويلة باسم "مقهى الدقّور" وكان يعج بالرجال الذين يُدخّنون الأركيلة والسجائر بكثرة فيه، ويلعبون الورق والطاولة، ويصرخونَ ويضحكون بصوت عالٍ. لكن ما كان يلفتُ نظري أكثر صالة سينما "هوليوود"، التي كانت أول صالة لعرض الأفلام في الميناء في مطلع خمسينات القرن الماضي، وتسترعي بالتالي انتباه من يمرّ من أمامها إلى "أفيشات" الأفلام، الحاملة لصور "أبطال" الفيلم المعروض والأفلام القادمة. وتركتْ هذه الصالة السينمائية تأثيراً كبيراً على طفولتنا، وعليَّ أنا بخاصة بعد أن اكتشفتُ فيها عُشقي اللامحدود للسينما.
كان يبدو وكأن كل شيءٍ يسيرُ كما هو مرسوم لي. لكن في صباح أحد الأيام من مطلع خريف 1952 رافقني والدي إلى المدرسة وطلب لقاء المديرة فأدخلنا موظفٌ إلى مكتبها. فوجئتُ عندما دخلنا المكتب برؤية الراهبة ذاتها التي كانت تُظهر لي لطفاً خاصاً دون أن أكون على علمٍ أو فهمٍ بأنها المديرة العامة للمدرسة. وارتسمت على الفور ابتسامتها العريضة على وجهها الأبيضِ المستدير كالقرصِ، وبعد التأهل بنا سألتْ والدي عن الدافع لطلبه الحديث معها فأخبرها بأنه ووالدتي وأنا سنسافر بعد أيامٍ إلى الأرجنتين للبقاء نحو سنة لدراسة مسألة الهجرةِ إليها وبدءِ حياة جديدة هناك، وأنه جاءَها كي يُبلغها هذا الأمر ويعيدني معه إلى المنزل. عندها شهقت الراهبة ملتاعةً وبكتْ، وانهمرت دموعٌ من عينيها كالسيل، ثم حملتني وقبلتني على وجنتيّ أكثر من مرة وأجلستني في حضنها وفتحت درجاً من مكتبها سحبت منه عُلبةً جميلة أخرجت منها صوراً عدة تمثّلُ يسوع المسيح ومريم العذراء والقديس يوسف وأهدتني إياها مع مسبحة صلاة، وأنا صامتٌ مندهشٌ لا أفهم سبب بكائها.
عندما خرجنا من عندها كانت الدموع لا تزال تَطْفر من عينيها، وحين أدرتُ رأسي إلى الخلف قبل مغادرتي باب المدرسة الخارجي لوّحت لي بيديها مودعةً فرفعتُ يدي بدوري مودعاً دون أن أفهم سرَّ تأثرها الشديد. رغم دهشتي مما سمعته ولمسته ورأيته من الراهبة، وفرحي بما أهدتني إياه، شعرت بكآبةٍ قوية في ذلك الصباح وأنا عائدٌ مع أبي إلى البيت بعد أن زعْزعني مشهدُ البكاء بسبب مغادرتي النهائية للمدرسة وللبلد دون أن أعي في هذا العمر ما يعني كل ذلك. وفي خضم الاستعدادات للسفر نسيت هذه الواقعة تماماً في الأيام والأسابيع اللاحقة، لكنني اكتشفت في ما بعدا أنها لم تغادر ذاكرتي التي حفرت فيها عميقاً. وخطَرتْ لي في بعض الأحيان حين أصبحت شاباً فكرة أن تكون الراهبة رأت فيَّ شُبهاً بطفل آخر من أقربائها عزيزٌ جداً عليها. وشاءتِ الصدف ألا تنتهي القصةُ مع الراهبة المذكورة عند هذا الحد، بل حصلتْ تتمة لها بعد حوالي عقدين من الزمن تقريباً.
يقول مفكرون وعلماء إن الصُدفة ليست قدراً مقدّراً في الغيب، وإنما هي مجموعة من تداخل العلاقات، والأسباب، والدوافع، والخطوات، والمواعيد التي تُنتجُ الصدفة التي لا تعودُ صدفةً محضة بهذا المعنى. ففي عام 1973 على ما أظن، وكنت في السابعة والعشرين من العمر، أرسلتني هيئة تحرير الصحيفة التي كنت أعمل فيها في بيروت إلى منطقة البقاع لتغطية حدث ما. وحين قررتُ العودة إلى العاصمة كنت في بلدة شتورة البقاعية فوقفتُ على زاوية الطريق الرئيسية في انتظار أول سيارة أجرة تمرّ كي استقلها. لم يمض وقت طويل حتى توقفت سيارة أمامي فصعدت إليها إلى جانب السائق، ولحظت وجود راهبة في المقعد الخلفي. لم أعط الأمر أية أهمية في اللحظة الأولى، لكن ذاكرتي بدأت لا شعورياً تنشط في التفتيش عن صورة هذه الراهبة التي بالكاد لمحت وجهها خلال صعودي السيارة. فجأة توقف دوران ذاكرتي أمام صورة الراهبة التي ودّعتها قبل 22 سنة وقد غطى وجهَها الدمعُ والحزن. بدأت أتحيّنُ الفرص كي أنظر إلى الخلف بصورة طبيعية بقدر الإمكان للتأكد من صحّة حسّي وشعوري، وحين اُتيحت لي الفرصةُ هذه ألقيت نظرة سريعة فوجدت أنها هي بالفعل الراهبة التي أعرفها، وبكل تقاسيم وجهها التي انطبعت في ذاكرتي دون أن يتمكن الزمنُ الفاصل من محو وجهها الأبيض والمستدير، وجسمها الممتلئ المتماثل مع ما تبقى في مخيلتي.
لا أنكر أنني هِبت هذه اللحظة وشعرتُ وكأنني عدتُ في آلة الزمن إلى فترةِ طفولتي. لم أتمالك نفسي في نهاية الأمر فأدرت وجهي إلى الوراء وتوجهت إلى الراهبة الجالسة بهدوء، وبنظرات شاردة تدلُّ على أنها كانت تجولُ في فكرها في مكان ما آخر، سائلاً: ما سور .. هل أنتِ ما سور ماري؟ تفحّصتني الراهبة بفضولٍ بعض الشيء وعلى شفتها نصف ابتسامة، وهزّت برأسها وهي تُجيب بصوت منخفضٍ "نعم". وكأنني لم اقتنع بأنها هي بالفعل خرج من فمي السؤال الثاني حول ما إذا كانت مديرة لمدرسة الراهبات في الميناء قبل نحو عشرين سنة. عندها وسَّعت عينيها جيداً وقوّمتْ جلستها بعض الشيء، وتفحّصتْ وجهي من جديدٍ للحظات سريعة، وأجابتني بـ "نعم" بلهجةٍ مرتفعة بعض الشيء، والحيرةُ بادية على وجهها أكثر من حيرتي أنا بهذا الالتقاء الغريب الذي لم يكن متوقعاً لا مني ولا منها. سألتها على الأثر إن كانت لا تزال تذكر ذاك الفتى الذي كان في الصف التحضيري عام 1952 وودَّعَتهُ بالدمع، وأهدته صوراً دينية ومسبحة للصلاة عندما جاء والده ليأخذه من المدرسة ويصحبه معه إلى الارجنتين...
... فجأة ساد صمتٌ وسكون كاملين داخل السيارة بعد أن سارع سائقها الذي كان يتسمّع إلينا إلى اغلاق الراديو للاستماع بدوره إلى جواب الراهبة التي تركت العنان لذاكرتها لتستعيد حدثاً حصل معها قبل عقدين من الزمن. وجاء الجواب في النهاية من فمها مُخيّباً لأملي بوضوحٍ، إذ لم تبق أية ذكرى لهذه الحادثة في ذاكرتها، وبخاصةٍ لمشهد وداعها المؤْثر لي الذي صاحبني طيلة الوقت ولم أنسه حتى هذا اليوم.
كانت السيارة قد خلّفت وراءها في تلك اللحظة طريق ضهر البيدر المرتفع والمتعرج لتواصلَ شَقّ طريقها بسرعة إلى بيروت. لم أعد أذكر بعد ذلك ما تحدثنا حوله، وأعتقد أنني سألتها عما فعلته بعد مغادرتها الميناء وما تفعله حالياُ كما سألت هي عني أيضاً، لكن كل ذلك لم يكن يهمني أو يهمها في واقع الأمر. حين وصلنا إلى إحدى البلدات التي لم أعد أذكر اسمها طلبت الراهبة من السائق التوقف وودّعتنا قبل أن تغادر السيارة. وسمحت لي المسافةُ المتبقّية إلى العاصمة بيروت بمراجعة مشهد الفصل الثاني والأخير للعلاقة الافتراضية التي نشأت بيني وبين الراهبة خلال عقدين ونيّف من الزمن ووصلتْ الآن إلى خاتمتها. كان ممكناً لصدفة الالتقاء هذه أن تتكرر معي مرة أخرى لأنني بحكم عملي الصحافي سافرت كثيراً بين بيروت والبقاع، إلا أن صدفة ثانية لم تحصل. ورغم الخاتمة المخيّبة لي سرّني مع ذلك كثيراً الالتقاء مرة أخرى بالشخصية التي كانت تعود إليّ باستمرار في اللاوعي بفعل رغبتي الدفينة في معرفة سرّ الدموع الغزيرة التي ذَرَفَتها على وداعي وأنا طفلٌ في مطلع السادسة من عمري... حتى ولو بعد عقدين من الزمن".