>
Zurück / عودة الى الرئيسية
الدار البيضاء - نور الدين محقق
منذ سنوات عدة، تعرف السينما المغربية تحولات عديدة سواء على مستوى البنيات الفكرية التي تقدمها أو على مستوى العملية الإخراجية الفنية التي أصبحت تعتمد عليها مستفيدة في ذلك من التطورات التكنولوجية الكبيرة التي أصبح يعرفها المجال السينمائي العالمي. من هنا، لم يعد مقبولاً بتاتاً عدم توافر الفيلم السينمائي المغربي على مقدار كبير من المقومات التقنية المرتبطة بالعملية الإخراجية خصوصاً ونحن نتحدث هنا عن الفيلم المغربي الاحترافي وهو ما يدعونا إلى التركيز على الرؤية الإخراجية التي يعتمدها المخرج السينمائي في إنجاز فيلمه، وتقديم القصة التي يريد إيصالها إلى المتلقي من خلاله.
هكذا نجد على سبيل المثال كيف أن أفلام المخرج هشام العسري تركز على رؤية إخراجية تعتمد على التحكم في الأدوات التقنية المستعملة بكثير من الدقة الفنية. وهو أمر يجعل من هذا التحكم التقني أداة أساسية في خدمة الرؤية الفنية التي يسعى من خلاله هذا المخرج إلى تقديم عناصر القصة التي يريد إيصالها إلى المتلقي. وحين يتحول التحكم التقني إلى عامل أساسي في الفيلم السينمائي، على رغم أن قصة هذا الفيلم قد تكون قصة بسيطة، يسفر الأمر عن وضع يجعل منها قصة ذات أبعاد دلالية مختلفة ومتعددة في ذات الآن.
وهو أمر نراه في مختلف أفلامه، إذ يمكن المتفرج النبيه أن يرصد عملية التلاؤم في اي فيلم من أفلام العسري، بين ما هو فكري وجمالي وبين ماهو تقني محض. ومن بين هذه الأفلام السينمائية الجديدة التي قدمها في هذا الإطار، نجد فيلمه «ضربة في الرأس» الذي جمع فيه بين هذين الجانبين في شكل عميق جداً، إذ تحولت التقنية إلى أداة فعالة داخل الفيلم السينمائي ولم تكتف فقط بعملية بنائه خارجياً.
إن هذا الفيلم السينمائي الذي تم الاعتماد فيه على التصوير السينمائي القوي واتسمت فيه الصورة السينمائية بشعرية كبيرة مردها الأساسي إلى التحكم التقني، يقدم لنا داخل بنيته الحكائية قصة لعبت فيها التكنولوجيا دوراً مهماً. ذلك أن بطل الفيلم الذي يعمل شرطياً قد تعرض لضربة على رأسه وهو يفرق جموع المتظاهرين. وقد تمت معالجته طبياً بوضع شبكة حديدية داخل رأسه بحيث أصبح جسده يتفاعل مع التموجات الكهربائية الأخرى. وهذا التفاعل الإنساني– التكنولوجي سيكون له دور في عملية التسلسل الدرامي للفيلم. إنه سيجعل البطل وهو يتابع مباريات كرة القدم، يظل بعيدا عن جهاز التلفزيون حتى لا يؤثر عليه. وهو أمر ظل يؤثر حتى على علاقاته مع الشخصيات الأخرى التي سيتلقي بها، أو ستربطه بها علاقات صراع أو صداقة.
إن عملية تحول العامل التكنولوجي من إطار خارجي يساعد في العملية الإخراجية للفيلم السينمائي إلى عمال داخلي مؤثر في البنية السردية ويصبح من ضمن القوى الفاعلة فيه، قد عرفتها السينما المغربية في العديد من الأفلام التي قدمتها في السابق. يمكن أن نستحضر في هذا الصدد فيلم « ألف شهر» للمخرج فوزي بنسعيدي، كما يمكن أن نستحضر أفلاماً سينمائية أخرى مثل فيلم «نساء ونساء» للمخرج سعد الشرايبي أو فيلم « إطار الليل» للمخرجة تالا حديد وغيرهما. ذلك أن عملية جعل العامل التكنولوجي سواء كان سيارة أو دراجة أو آلة تسجيل أو آلة تصوير فاعلا أساسيا ومؤثراً في سيرورة البنية السردية للفيلم مسألة هامة جدا في لعبة التجديد السينمائي، عملية تفتح الفيلم على الاستفادة من كل المكونات الفيلمية الممكنة في لعبة التجسيد الفني للأفعال وحتى للأفكار في بعض الحالات التي تتطلب ذلك، وعدم اكتفائه فقط بالاعتماد على شخصيات إنسانية فحسب تجسد أدوارها بدون ربطها مع عوامل أخرى خارج-إنسانية.
وبهذا نرى كيف أن السينما المغربية مثلها في ذلك مثل باقي السينمات في العالم لم تعد تقتصر فقط على توظيف الشخصيات الإنسانية في أفلامها فحسب وإنما أصبحت توظف إلى جانبها وفي تفاعل قوي معها فواعل وقوى أخرى قد تكون تكنولوجية بالأساس، لكنها يكون هنا موضع استحواذ تفني ودرامي يكون الهدف الأساسي منه، خلق عوالم سينمائية جديدة ومختلفة بالتالي عن العادي الذي أصبح الجمهور السينمائي على معرفة كلية به من كثرة تكراره في معظم الأفلام السينمائية التي شاهدها في السابق.
"شكل الماء" أفلمة الأساطير والدفاتر القديمة
شريف صالح
مع ترشحه أخيراً لثلاث عشرة جائزة أوسكار، وبعد فوزه بالأسد الذهبي في مهرجان البندقية، وحصوله على عشرات الجوائز والترشيحات الأخرى. يبدو فيلم «شكل الماء» للمخرج المكسيكي الأصل غييرمو ديل تورو، مؤهلاً لأن يكون أيقونة سينمائية.
ولا شك في أنه أحد أفضل عشرة أفلام في عام 2017، لكنه ليس بمستوى تحفة مخرجه ديل تورو الشهيرة «متاهة بان» 2006، الحائز على ثلاث جوائز أوسكار. بل إن المخرج يبدو هنا كمن وقع في أسر فيلمه القديم وأعاد مثل التاجر البحث في دفاتره القديمة.
ففي «متاهة بان» لدينا الأميرة الطفلة «موانا» ابنة ملك العالم السفلي، التي حلت روحها في الطفلة «أوفيليا»، ويسعى والدها إلى استعادتها في عالمه تحت الأرض، لكنها تعيش مع أمها المتزوجة من جنرال فاشي - في حقبة فرانكو - يعذب أمها ويهملها إلى أن تموت، فتقترب «أوفيليا» أكثر من عالمها السفلي الخيالي، وتحاول الهروب، وتلقى المساعدة من إحدى الخادمات.
وفي «شكل الماء» تقريباً الحبكة ذاتها، فلدينا أيضاً الجنرال القاسي «ريتشارد» (مايكل شانون)، وبدلاً من الطفلة الرهيفة الوحيدة تطالعنا هذه المرة، الفتاة البكماء الوحيدة «إليسا» سالي هوكينز، والتي تلقت المساعدة هذه المرة من عاملة النظافة صديقتها «زيلدا» أوكتافيا سبنسر. وهذه المرة تحول الوالد ملك العالم السفلي، إلى مخلوق برمائي «الرجل السمكة» بجلده القشري وقناعه الذي يذكرنا بـ «آفاتار».
المخلوق الذي يقدسه سكان غابات الأمازون يصبح - هنا حبيب «إليسا»- عاملة النظافة التي لا يرى العالم القاسي والمادي جمال روحها وطيبة قلبها، وإن لم تتمتع بالجمال الخارجي.
شبح الحرب الإسبانية
في كلا الفيلمين استعادة زمن يمتد ما بين الأربعينات إلى الستينات، حيث أجواء الحرب الإسبانية هناك، والحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي هنا. فالضابط الكبير (ريتشارد ستريكلاند) يدير مختبراً سرياً للاستفادة من هذا المخلوق البرمائي في سباق التسلح مع الروس. بينما يشرف عليه علمياً دكتور هوفيستلر (مايكل ستولبارغ).
في الفيلمين إدانة للحرب، أُضيف إليها في «شكل الماء» التنديد بالعلم القائم في مختبرات عسكرية، في مقابل الانتصار للأسطورة وشاعريتها. ولأن الأسطورة ترتبط ببراءة الوعي البشري، وبداية رحلته إلى المعرفة، اختار ديل تورو في الشريطين بطلته طفلة/ فتاة، كتجسيد تام لمعنى البراءة. وهو ما يعني أيضاً إعادة المرأة إلى مكانها المركزي في الأسطورة. فإذا كان الواقع بات تحت سطوة الذكورة، بملمحها العسكري الخشن، فإن أنثى لا تملك إلا براءتها قادرة على هزيمته، ما يذكرنا بمقولة سفر يهوديت «ضربه الرب القدير فأسلمه إلى امرأة قتلته». دي تورو مشغول بالقَصص الديني مثلما هو مشغول بالأسطورة في بناء عالم من مستويين: واقعي وفتنازي. وإذا كان «متاهة بان» عبّر عن أصالته كمخرج كبير، فشريطه «شكل الماء» عبّر عن حرفيته العالية، وبراعته في أن يقول كل شيء، ويستعين بكل مُشهيات السينما في شريط واحد، حتى كاد يرضي جميع الأذواق، فلدينا قصة رومانسية حالمة جدًا، تعود جذورها إلى الحكايات الخرافية وقصص مثل «الجميلة والوحش».
وعلى رغم أن البطلة بكماء، و «الوحش» الطيب لا يصدر سوى همهمات مكتومة، فإنهما كانا قادرين على التواصل، من طريق الجسد والإشارة. وكأن ثمة لغة عليا تفوق الكلام نفسه، هي لغة الحب.
وأيضاً ثمة قصة عن الجاسوسية وأجواء الحرب الباردة، مطرزة بمشاهد مظلمة وزخات كافية من الرصاص.
وثمة لمحة من قصص المستقبل والخيال العلمي، وإمكان التواصل مع كائنات فوق بشرية... عبر ذلك الوحش الجميل بتحولاته النفسية والعاطفية، وبراعة مؤدي الدور الصامت الممثل دوغ جونز، في إقناعنا بأنه خلف هذا النسيج القشري السميك روح فاتنة.
وبين تلك الخطوط جميعها، إسقاطات وإدانات سريعة، لما كان يُجرى ضد السود من خلال العاملة المرحة زيلدا، وبؤس ما يعيشه الفنان الكهل (غيلز) ريتشارد جينكينز، جار إليسا وصديقها الوحيد والذي لا يكاد يجد عملاً على رغم موهبته.
الجميلة والوحش
ولم يكتف ديل تورو بجاذبية خطوطه الدرامية، ولا براعة ممثليه خصوصاً «الجميلة والوحش» اللذين قدما أداء إيمائياً رفيعاً. بل غلف فيلمه بتوليفة موسيقية مبهجة وفخمة، تستعيد العصر الذهبي لهوليوود، خصوصاً أعمال غلين ميلر وأغنيته الشهيرة «لحن غرامي في ضوء القمر».
كما قدم تحايا كثيرة لنجوم السينما والتلفزيون في خمسينات وستينات القرن الماضي، مثل شيرلي ماكلين، وكان حريصاً على الدوام، في لقطات كثيرة أن تكون ثمة شاشة تلفزيونية تعرض بهجة ما. مثلما اختار أن تعيش إليسا في منزل عتيق الطراز، أعلى سينما وليس أي شيء آخر.
فالفيلم، على رغم أجواء الحرب الباردة ومشاهد القتل والعنف، حافظ على طابعه الرومانسي، ووجه تحية عظيمة إلى الفن كطريق ثالث يختلف عن طريقي العلم، والقوة.. وكأنه الوريث الشرعي للأسطورة، حيث يجمعهما الجمال والخيال.
فالوحش الأسطوري أكثر جمالاً وخيالًا، من الوحش البشري الجنرال (ريتشارد)، والبكماء التي تعيش أسطورتها وخيالاتها، أكثر سعادة من صديقتها العاملة الواقعية التي تجتر قهرها وخيباتها.
ومنذ البداية مع صوت الراوي «الجار الرسام» - واختيار راوٍ يعزز عجائبية وأسطورية الفيلم - حيث الماء يغمر كل شيء، والدخول إلى بيت البطلة وعالمها السحري، والموسيقى الفاتنة، بدا الشريط واعداً جداً، لكنه شيئاً فشيئاً، مال أكثر إلى المعادلات الهوليوودية المتوقعة، وكأن نهايته أضعف فنياً من بدايته. فالأشرار قتلوا بعضهم بعضاً، والوحش الأسطوري اصطحب حبيبته إلى عالمه السفلي.
والعالم السفلي لدى ديل تورو، سواء «الأرض» في «متاهة بان» أو «الماء» في فيلمه هذا، يشير بوضوح إلى الطبيعة الأم، إلى حاجتنا الروحية لإعادة اكتشافها والتواصل مع أصواتها التي لم نعد نسمعها.
فالماء كان يغمر كل شيء، ويقدسه الإنسان والأديان، كأصل للحياة، ومصدر للبهجة... وفي مشاهد كثيرة جداً اشتغل ديل تورو عليه بصرياً، من امتلاء حوض الاستحمام حيث اعتادت البطلة أن تسترخي وتمارس متعتها الوحيدة، إلى قطراته البلورية المنسابة على زجاج الباص، وصولاً إلى زخات المطر، وامتلاء البحيرة.
الموتيفة الأخرى البصرية التي اعتنى بها كانت «البيضة»، وهي أيضاً رمز مقدس لدى معظم الحضارات القديمة، وإلى اليوم أعياد شم النسيم في مصر ترتكز على الاحتفاء بالبيض وتلوينه، فالبيضة رمز تجدد الحياة من الموت، وترتبط أسطورياً بالماء، حيث يقال إن العالم تشكل في البدء من محيط مياه مظلم ثم طفت فوق المياه الأزلية البيضة الكونية الذهبية.
كان ديل تورو واعياً تماماً بأسطورته، وموتيفاته، وقصته، وأداء ممثليه، وتكوينات الكادرات التي جعلها في حركة دائمة، مع انسيابية القطع، وبهجة الموسيقى... ليجسد بالفعل شريطاً رائعاً، لكنه - تحت وطأة حسابات هوليوود - لم يصل به إلى أن يكون تحفة سينمائية، وظل أقل درجة من «متاهة بان».
"الحياة" اللندنية